قصة الخليقة بين الأسطورة والحقيقة جديد
الزيارات:

Unknown | 7/01/2013 11:31:00 م |
ليس من العدل أن يناقش أحد موضوع التطور، والإسلام، وموضوع الفصائل المشابهة للبشر دون إفراد جزء من الكلام لكتاب “أبي آدم: قصة الخليقة بين الأسطورة والحقيقة” للدكتور عبدالصبور شاهين، الداعية والمفكر الإسلامي.
عبدالصبور شاهين
لن ألخص الكتاب، فصفحته في ويكيبيديا تفعل ذلك. والكتاب موجود على الشبكة (ملف ورد ، بي دي اف – شكراُ سعود العمر) وهو ليس طويلاً جداً.
الكتاب له فكرة أساسية عن علاقة البشر بالفصائل التي تشبههم، وفيه عدد من النقاط الأخرى حول الموضوع. الكتاب قيم جداً لأنه يعاود زيارة قصة الخلق البشري وينقيها من الكثير مما قد يكون قد لوثها من مصادر غير موثوقة. هذا الجزء من مقدمة الكتاب يوضح هذا المعنى:
قصة الخلق – كما أوردها القرآن الكريم – مليئة بالكثير من الأسرار الخفية ، والمعاني الظاهرة ، وقد تناولها المفسرون والمنصفون من زاوية أو أخرى ، وتشابهت محاولات القدماء ، حين أخذ بعضهم عن بعض ، وحين جاء العصر الحديث بمعطياته الكثيرة في مجالات علم الأرض ( الجيولوجيا ) وعلم الإنسان ( الأنتروبولوجيا ) وعلوم الحياة ، والأحياء ( البيولوجيا ) وغيرها – تغيرت مفاهيم كثيرة ، وصار لزاماً على من يتصدى لكتابة شيء عن هذه القصة أن يأخذ في إعتباره ماكشف عنه العلم الحديث من حقائق نسبية ، وما قال به من نظريات ، حتى لايبدو متخلفاً عن موكب المعرفة المعاصرة ، وذلك على الرغم من أن الذين حاولوا الكتابة في هذه القصة حديثاً تعاملوا معها من منطلق المسلمات القديمة ، أو بمنطق اللا مساس والتوفيق والحذر .
إن هذه القصة كما وردت في القرآن الكريم تحتمل الكثير من التأويلات ، وهي حافلة بالإيماءات والإشارات ذات الدلالة التاريخية والزمنية ، ونحن هنا نستخدم المصطلح ( التاريخ ) بالمفهوم العام ، الذي يشمل كل ما مضى من الزمان ، محدداً كان أو غير محدد ، أي : التاريخ وما قبل التاريخ ، منذ كان الزمان بأمر الله التكويني ( كن ) فكان … ولا معقب ..
إن نظرة القدماء إلى القصة قد تأثرت بالتصور الإسرائيلي لها ، وهو الوارد في سفر التكوين ، [...] [التي] هي ذات طابع أسطوري غالباً ، ولا دليل على خطئها أو صوابها ، سواء في الأسماء أو في الأرقام ، وإن كانت إلى الإحالة وعدم التصديق أقرب .
ولكن الملاحظ أن أصحاب السير قد إعتبروها من المسلمات ، فكرروها دون أدنى مناقشة ، أو حتى توقف.
بغض النظر عن اتفاقنا واختلافنا مع محتويات الكتاب وفكرته الأساسية أو غيرها، إلا أن هناك بعض الشواهد المهمة في سياق هذا الموضوع. والكاتب حصر كل الآيات التي تتحدث عن خلق البشر ودرسها ودرس علاقتها ببعض، ووضع ذلك في ترتيب تاريخ نزولها.
الكتاب أطول مما نستطيع أن نورد هنا، لذلك سأكتفي بإيراد بعض النتائج التي يتحدث عنها دون الكلام عن الأدلة التي قادته إليها، ذلك يمكن أن يرجع له في الكتاب. إذا كنت مهتماً بهذا الموضوع، فأرجوا أن تقرأ الكتاب (لو فقط من باب العلم بالشيء، ليس على سبيل الإيمان بما فيه)، لأن تلخيصي لما سأذكر من أفكاره هنا سيكون قاصراً.
الإنسان يخرج من البشر
جمع الدكتور عبدالصبور كل آيات خلق الإنسان، وأوردها في الكتاب. ثم مشى على شرحها والتعليق عليها حسب ترتيب نزولها ليبنى شيئاً فشيئاً الصورة الكبيرة لخلق الإنسان. ركز الدكتور على الفرق بين الآيات التي تستخدم كلمة “بشر” والآيات التي تحمل كلمة “إنسان”. فوجد أن الآيات التي تحمل كلمة “بشر” تشير إلى الخلق الأول من الطين، بينما التي تشير للـ “إنسان” تشير إلى التكليف، والخلق من نطفة، وغير ذلك، وبعض الآيات ترجع الإنسان إلى أصله، أي البشر.
فهنا يرسم الدكتور عبدالصبور صورة وهي أن الله تعالى خلق البشر وهي كائنات خلقها من طين، تمشي منتصبه على قدمين وليس لها أصل سابق في الأرض (الدكتور عبدالصبور يرفض التطور العام). وأن الإنسان تطور عن هذه الكائنات المشابهة له. وأن البشر هي مرحلة في خلق وتصوير الإنسان.
بغض النظر عن كون هذه الفكرة وهذا الإستنتاج صحيحاً أم لا، إلا أنها مهمة جداً. فهي صورة جديدة لخلق البشر في الفكر الإسلامي تأخذ في الحسبان الفصائل المشابهة للبشر. كما أنها لا تفترض أن آدم خلق لحظياً من العدم، بل عبر إجراء طويل على الأرض أخذ ملايين السنين.
عبدالصبور شاهين
إني جاعل في الأرض خليفة
كيف نستطيع فهم قصة خلق الإنسان في القرآن مع هذا التصور الجديد؟ هذا يوضحه المؤلف:
بدأت علاقة الإنسان بالملائكة على مشارف المرحلة البشرية ، وذلك حين أعلم الله الملائكة أنه خلق أو أنه يريد خلق ( بشر من طين ) ، وإعداداً لهم في مواجهة ما سوف يحدث من متغيرات على ساحة الأرض ، وقد إختارها الله لإيجاد هذه الخليقة البشرية ، بعد أن جعلها مهداً ، وكان البلاغ الإلهي منطوياً على جملة من العناصر المستقبلية إضافة إلى ما كان منجزاً منه .. كان ( خلق البشر ) قد أنجز ، أو هو بسبيله إلى الإنجاز ، وهو دلالة الجملة الأولى : {{ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا }} ، ثم جاءت الأمور المستقبلية في شكل هذا الأسلوب الشرطي : {{ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ }} ، وكأن الله يريد من الملائكة أن تراقب ما يحدث من تغييرات في أحوال هذا المخلوق الظاهر وصفاته ومقوماته ، حتى يسجدوا له كما أمرهم ، إذعاناً لأمره ، وإعظاماً لروعة إبداعه ، ومضت ملايين السنين ، وطحنت عشرات الألوف من الأجيال ، وربما مئاتها في عملية التسوية والتزويد بالملكات العليا والملائكة تراقب أحوال ذلكم المخلوق وتحركاته ، حتى آن أوان السجود .
كان المدخل إلى معرفتهم بأن السجود قد آن أوانه خطاب الله سبحانه لهم بقوله : {{ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً … 30 }} – البقرة . ، وهو خطاب يتضمن إخبارهم بأن التسوية قد تمت ، وقد صار البشر مزوداً بالنفخة من روح الله ، وكان لهذا القول وقع المفاجئة على أسماعهم ، فهم يتابعون منذ ملايين السنين أحوال هذا المخلوق ( البشر ) ، ويعاينون من شئونه ما يحيرهم ، ولذلك بادروا إلى سؤال المولى عز وجل : {{ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ … 30 }} – البقرة . ، وكأنهم يقولون لربهم : أهذا هو المخلوق الذي أمرتنا بالسجود له ، حين أخبرتنا بخبره منذ ملايين السنين ؟ لقد راقبنا أحواله منذ ذلك العهد السحيق ، فما رأينا منه غير الإفساد في الأرض ، وسفك الدماء ، وهم يشيرون بذلك إلى السلوكيات الحيوانية التي كان عليها البشر في مختلف مراحل تسويتهم ، حتى إكتمال ملكاتهم بالنفخة الإلهية وثمراتها .
فالقصة التي نفترض (دون أي أدلة) أنها تمت خلال دقائق يبين الدكتور عبدالصبور أن الأقرب أن أحداثها يفصل بينها ملايين السنين. ذلك هو الزمن الذي اقتضته التسوية، والتصوير، ونفخ الروح.
كما يشير هذا التصور إلى أن آدم عليه السلام هو فرد من فصيلة، له أبوين ومتصل بما قبله من الحياة المشابهة له. ولكنه تميز بميزات عرفها الخالق عز وجل ولم تبد ظاهرة للملائكة، فاصطفاه على معاصريه – إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ. وخصه بالرسالة وعلمه الأسماء كلها.
بعد ذلك يبدأ الدكتور عبدالصبور في سرد قصة الخلق بتفاصيلها حسب هذا المفهوم.
إبليس والسجود
نقطة غير متصلة بموضوعنا كثيراً، ولكنها من أكثر ما أثار اهتمامي في سرد المؤلف. ذلك هو بعض تأملاته في موقف إبليس.
ويظهر إبليس في مشهد التكليف بالسجود فجأة ، ودون مقدمات ، فلم يرد له ذكر قبل هذا المشهد ، وما كان سوى واحد من ( الجن المنتشرين ) في أرجاء الأرض ، ولعله كان ذا حظوة واقتراب من عالم الملائكة حتى جاء أمر السجود ، وكأنه مقصود به معهم ، والقرآن ينص على ذلك في قوله تعالى : {{ وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ … 50 }} – الكهف .
[...]
ونحسب أن الأمر لم يكن بالصورة التي يتخيلها العامة من المفسرين ، من مثول الملائكة ومعهم إبليس بين يدي الله ، جل وعلا ، وآدم واقف ينتظر حدوث السجود ، فقد استقر رأينا على أن السجود كان لآدم النبي الذي أختير خليفة ، والذي استهل به عهد الإنسان ، لا لآدم المخلوق ، فإن حدث الخلق كان قد مضت عليه ملايين السنين ، وإن لم يكن فرق بين السـَّنـَةِ والســِّنــةِ ، وعليه ، فإن تكليف الله سبحانه للملائكة بالسجود كان يعني تكليفهم بالأشغال بحفظ ذلك الخليفة النبي ، وذريته إلى يوم القيامة وقد رفض إبليس أن يخضع للأمر الإلهي ، وأن يعمل في خدمة الإنسان كالملائكة ، وبذلك انشق على الأمر الإلهي ، وصار عدواً لآدم وذريته ، كما صار عدواً لله خالقه ، وقد استعلن بهذه العداوة ، فلم يرجع عنها رغم زعمه أنه عبد الله !!
[...]
ولنعد الآن إلى النص الأول من التنزيل ، الذي ذكر هذا المشهد في سورة ( ص ) : {{ إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِن طِينٍ 71 فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ 72 فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ 73 إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنْ الْكَافِرِينَ 74 قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْعَالِينَ 75 قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ 76 قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ 77 وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ 78 قَالَ رَبِّ فَأَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ 79 قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنظَرِينَ 80 إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ 81 قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ 82 إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ 83 قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ 84 لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ وَمِمَّن تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ 85 }} – ص .
[...]
ويبدو لنا هذا النص أشبه بتلخيص للحوار ، أو بالأحرى للقصة التي جاءت تفاصيل كثيرة منها في السورة التالية نزولاً ، سورة ( الأعراف ) ، لكن حسبنا الآن هذا الموجز الذي يقتصر على جانب الحوار بين الله وبين المتمرد إبليس .
وفي بداية النظر في مكونات الحوار نؤكد هنا على ضرورة مراعاة المسافة بين ما ينبغي لله من جلال وعظمة وعلو شأن ، وهو سبحانه الخالق الباريء المصور ، وبين إبليس من حيث هو مخلوق يواجه خالقه ، وهو لا يذيد في قدره عن أي مخلوق متمرد على أوامر الخالق ، مُصِرٍّ على معصيته ، سواء أكان من الإنس أم من الجن .. هذا من ناحية ..
ومن ناحية أخرى يجب أن نستبعد الصورة الساذجة التي يتخيلها بعض من تناولوا هذه القصة .. أعني : صورة المواجهة المباشرة في هذا الحوار ، فلا ريب أن الشيطان كان في موقعه من الكون ، لا يستطيع أن يتجاوز قدره ، فيتطاول إلى المقام الأسنى ، مقام رب العزة ، ليجابهه بتلك المقولات ، فالله أعلى وأجل من أن تدركه الأبصار ، أو تحده الأوهام والظنون . وغاية ما نتصوره أن يكون الحوار قد جرى من خلال الوحي النفسي ، الذي أحاط بتفاصيله من يعلم السر وأخفى ، فهو – والله أعلم – حوار جرى في نفس إبليس ، حين رفض الأمر بالسجود ، من منطلق اعتقاده بأنه خير من آدم من حيث الأصل ، فهو من نار ، وآدم من طين ، وذلك رداً على ما ثار في نفسه من أن إباءه السجود لا تفسير له إلا الكبر والغطرسة ، وحينئذ جاءه الأمر الإلهي – أيضاً – من طريق الوحي النفسي : {{ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ * وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ }} .. وهكذا سار الحوار إلى نهايته ، بكل ما تضمن من حقائق وأقدار عبرت عنها كل رسالات الأنبياء ، من لدن آدم إلى محمد ، عليهم جميعاً أفضل الصلاة وأتم السلام .
عقلانية منعشة نتعطش إليها. عموماً، عودة إلى محور حديثنا.
أبي آدم والتطور
لماذا نتكلم عن الكتاب في سياق التطور بينما المؤلف لا يؤمن بالتطور العام (بينما يؤمن بتطور آدم عليه السلام من فصيلة سابقة إصطفاءُ الهيا)؟
الشاهد هنا هو أنه بعد تنقية قصة الخلق القرآنية من الإسرائيليات وما يعلق بها من الإفتراضات البشرية، فإنه يمكن تصور قصة الخلق وهي تمتد ملايين السنين وتأخذ في الحسبان ما قدمته العلوم البشرية لنا إلى الآن. ذلك كان هو هدف الدكتور عبدالصبور شاهين، وتلك هي القيمة الرائعة التي قدمها للفكر الإسلامي وتلقى بسببها الكثير من الأذى رحمه الله.
وهدفي هنا هو ذات هدف الدكتور، وهو الوصول إلى توفيق للنصوص الصحيحة والعلوم الصحيحة ، وهي ضرورة لكل من يؤمن أن الإسلام دين عقلاني منطقي أنزله خالق الكون. فكما ورد في السلسلة من قبل، نقاط التعارض الظاهري بين التطور وبين الإسلام هي قصة خلق البشر، فقط، وخلق البشر من تراب. تصور الدكتور عبدالصبور يقربنا شيئاً فشيئاً من هذا التوفيق.
لكن دعني أطلب منك أن تتخيل أن كل الحياة الأرضية مخلوقة من تراب. أي أن كل الحياة على الأرض بكل فصائلها وأنواعها نشأت من أصل واحد خلق من تراب الأرض، وأنها تطورت عن بعضها، بما فيها البشر. وأن آدم عليه السلام متصل مباشرة بما قبله من الحياة، كما تشهد بذلك كل خلايا جسمه، والحمض النووي الذي فيها، وذريته من بعده. ماذا الآن؟

هل هناك في النصوص ما يمنع أن تكون شجرة الحياة كلها خلقت من تراب وماء ومادة ومركبات الأرض الغير حية؟
ليس ذلك فحسب، بل إذا تأملت في القرآن وعرضت عليه هذا المفهوم، فإنك ستجد دلالات تشير إلى هذا المفهوم ولايمكن فهمها بأي طريقة أخرى، كقوله تعالى “منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى”. فأصلنا وأصل خلقنا متصل إلى الأرض دون أدنى شك. بل إن طريقة الخلق هذه هي مما يحتج الله تعالى به على من يكابر من الناس “مالكم لاترجون لله وقارا‏ وقد خلقكم أطوارا‏”.
تاريخ هذه الحياة يسرده بإختصار الدكتور خالص جلبي:
وإذا كان عمر الكتابة خمسة آلاف سنة، وبدايات تاريخ الانسان غير المكتوبة بدأت منذ حوالي (3.5) ثلاثة ونصف مليون سنة فكم يا ترى عمر الحياة وكيف بدأت؟ يعكف علماء الحياة اليوم على تقصي التاريخ الطبيعي، فإذا كان للإنسان تاريخ (إنساني) فإن للطبيعة تاريخها الخاص، والمعلومات الأولى التي شق العلم الطريق إليها أن بدايات الحياة تمتد إلى حوالي 3.8 مليار سنة، ولعلها بدأت بالخلايا الوحيدة التي لا تحتاج الأكسجين، ثم قفزت الحياة إلى مرحلة الخلايا الوحيدة التي تستخدم الأكسجين، قبل أن تظهر عديدات الخلايا التي تنتهي عندنا، حيث يمثل الانسان قمة الخليقة، ويمثل الدماغ البشري قمة القمة لتجلي الخلق العجيب، وأما عمر أمنا الأرض فيصل إلى حوالي 4.6 مليار سنة، وإذا قارنا بين بدء الحياة قبل 3.8 مليار سنة وعمر الانسان وهو يدب على الأرض بـ 3.5 مليون سنة، وإذا عرفنا أن المليار هو ألف مليون، كان معنى هذا أن كتاب تاريخ الخلق يتشكل من مجلد ضخم يبلغ ألف صفحة، تنفرد فيه الصفحة الأخيرة برواية الخلق الانساني، كما أن الملايين الثلاثة والنصف من السنوات هي تلك الفترة غير المذكورة من الحياة الإنسانية غير المكتوبة، لأنه لا ذكر بدون كتابة، والكتابة لم تتشكل إلا منذ فترة قصيرة هي خمسة آلاف سنة فقط، أو على حد تعبير القرآن
كما أورد هنا كلام الدكتور خالص الذي اقتبسته في تدوينة سابقة:
“عندما كتب المؤرخون عن تاريخ الإنسان على الأرض كانت الرؤية التقليدية أنه هبط من جنة عدن إلى أرض الشقاء. وكلمة (اهبطوا) أوحت إلى البعض أنه (أنزل) من كوكب آخر. وأنه عجن دفعة واحدة. وأن لا علاقة له ببقية الكائنات.[...] وما يقوله العلم ان آدم عاش في أفريقيا وأنه لم يكن شكلاً واحداً بل زاد عن عشرة أشكال. وأنه كان من طين لازب من الأرض. وأنه وبقية الكائنات تتصل بشجرة الخليقة فلم يهبط آدم من السماء بل نبت من الأرض والله أنبتكم نباتا.[...] وكان (ابن خلدون) و(ابن مسكويه) من أوائل من أشار إلى اتصال كل أفق من المخلوقات بالأفق الذي بعده كما بين الحلزون والنخيل وأن هناك نوعا من التحول (العجيب) من آخر أفق من الكائنات إلى أول الأفق الذي بعده. ومع أن (تشارلز دارون) طرح منذ عام 1859 كتابه عن (أصل المخلوقات) فنحن ما زلنا في الشرق لا نتحدث في هذا الموضوع خوفا من العوام. كما حصل عام 1854م في زمن الشريف (عبد المطلب) في مكة حينما جاءه أمر من الوالي العثماني بأن السلطان تحت ضغط بريطانيا يريد إنهاء بيع الرقيق في الأسواق. (فلما استدعى الوالي دلالي الأرقاء وأبلغهم بالخبر هاج الناس وتنادوا بالجهاد.. وأنه مخالف للشرع واشتبكوا مع الحامية التركية ووقع العديد من القتلى) على ما ذكره الوردي في موسوعته عن تاريخ العراق الحديث.”
الآن أعتقد أنه أصبحت لدينا نواة لمفهوم لتطور البشر متوافق بشكل عام مع قصة خلق البشر في القرآن. هذه النواة تواجه عدداً من التحديات التي سنتطرق لبعضها في الموضوع القادم بإذن الله، لكن نستطيع إعتبارها بداية ومكان نستطيع بداية النقاش منه. الله الموفق والمستعان.

0 التعليقات:

إرسال تعليق